
تنوّه الجارة أن شبابيك الغرف عندي مغلقة أغلب الوقت، تنصحني بفتحها كل صباح كي يغمرني هواء حقيقي، وأحيان أخرى تدعو لي بالتوفيق لأنها تلاحظ ضوء الغرفة، حتى في وقتٍ متأخر، لم تتسنى لي فرصة إخبارها أن النوم المفاجئ، هو ما يحول بيني وبين إطفاءه، لا الإجتهاد. حين أعود من سفرٍ قصير، تتصل لتطمئن إن كنت أنا من دخل الشقة وأضاء الأنوار وليس اللص، أحياناً كنت أعود مُتعبة فأتعمّد عدم إشعالها لأنعم بنومِ سريع قبل أي اتصال. أصبحتُ تدريجياً أشعر بمسؤولية أن يزعج هذا الضوء، الجهة المقابلة لسكان العمارة، فأنا لا أعرف في أي ليل يهيمون، قد يبوء الانعكاس بنفسه، ليُفسد ظلمة رعوها جيداً مستسلمين فيها لنومٍ هادئ. أُطفئ كل نور تصل يدي إليه، عدا الممر، أمشي في الشقة الفارغة، وتنساب عند قدماي المتباطئة، ظلالي، وأفكر أن هذا يشبه كائن القلق الذي يظهر في غياب الجُلبة، أجلس حينها لأرعى النصف الآخر من العتمة: قلبي، وملحقاته من الأسى الليلي، وتذكر العابرين بثقل أحمالهم. أرنو إلى الوحدة التي كنت أطارد طيفها في النهار، هاهي تستفتح معي ليل جديد، لا نهاية واضحة له، تقفز إلى ذهني ومضات من كتاب مارجريت دوراس الذي قضيت الأيام الماضية أقلّب فيه، أحاديث عن الوحدة والكتابة، التحملق حول المعنى، ومحاولة الوصول إلى جوهر الكلمات الصحيحة حين تُكرر نفسها في عقولنا ليالٍ طويلة، حتى نجدها مخلوق له روح، على ورق أصفر، ولا نعلم ونحن ندونّها: هل هي مراسم للخلود، أم طريقُ ممهدةُ للنسيان؟
**
كان هناك، أمامي، يتحدث، ولا أذكر في أي حقل أحاديث تُهنا، كنت أفكر حينها أن تلك العيون هي أجمل ما رأيت، لعله أدرك ذلك، من نظرتي الوادعة، أو حزني الذي غشى وجهي، وأردد: لكن قد تنساني هذه العينان يوماً، وتجوب الأرض، وترى، وتعشق، وتخوض مع الحياة معاركها الخاصة حتى لا تعد تذكر ما قبلها، غمرتني في تلك اللحظة ألفة لها شكل الشجن، وحزن سنوات بعيدة جلب نفسه على الطاولة التي كانت بيننا وتسرب إلى أطرافي، على هيئةٍ باردة وحزينة. لم أعي ذلك، حتى غرقت عيناي بالدمع الذي انسكب إلى الداخل، حاولتُ الهرب من فكرة أن تنساني عيناه العذبة، إلى فكرة أننا جميعاً سنُخلّد في أذهان الذين أحببناهم بملء عواطفنا، وسنظل نحيا في عمقٍ ندركه، لا تعنيه المسافات، ولا تمادي الحنين نحو وجهات لن نستطيع الوصول إليها إلا بقلوبنا.
**
وأنا أمشي في طرقات وهبَت نفسها للأشجار، يعترضني صوت القطار، أشعر باهتزاز الأرض من تحتي، أنسى في كل مرة مصدر هذا الصوت، أرتعب لثوانٍ، حتى يسلبني الإدراك ذلك الرعب، انظر إلى الساعة، إنه قطار السابعة، كم كان ذلك دقيقاً، مع تنهيدة ارتياح. أصادف الرجل الغريب الذي لا يبرح جهته من التأمل، أراه دائماً، ولا أعرف إن كان يملك المحل الذي يجلس أمامه، أم يستريح فحسب، يُخيّل لي وكأن المكان لا يعنيه، كانت له سمة الراحل، أشعر أن كل من صادفه رأى له عزيزُ قد رحل، حتى أني كنت على وشك إخباره أنه يذكرني بأخي المرحوم، وأنا ليس لدي إخوة. رحتُ أخلق له قصته الخاصة في هذا العالم الذي اختار أن يشاهده، تحت ظلال سقف قماشي، وافترضت أنه لا ينزعج من هذا التشابه بينه وبين الموتى، لكن، قد يتملكه الفضول عن ماهية هذا الشبه، فيتسائل، هل لأن المرء يحب أن يتذكر أحبابه بصورتهم الأخيرة، هيئة واهنة، وملامح وديعة كالتي خُلق بها، حتى وإن عاشوا أشراراً في حياتهم العادية، أم أن هذا هو شكل اليأس الذي يغرق به منذ أعوام أمام القرطاسية التي تخدم الحي، ولا يعرف إن صاروا شيئاً واحداً، يقصدونه الناس لوداعته أم للمحل الذي لا يقدم خدمات وفيرة، ربما أعجبته فكرة التماهي، فصار واحداً منهم، أولئك الراحلين، بروحٍ هائمة نحو المجهول، وجسد يحرس المكان بابتساماتٍ عشوائية. أقف أمامه هذه المرة متخليةً عن قصصي، أُلقي التحية، ويردها بتمتمة. “هل أجد عندك طابعة يا عم؟”. يرد بحزمِ شخص حي: لا، لكن ستجدين ما أردتِ في المكتبة المجاورة.